فصل: مسألة المرأة تضار بزوجها فيقبح الذي بينهما ويفسد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة المولى عليه إذا كان عند مبلغه الحلم معروفا بإصلاح المال:

قلت: أرأيت المولى عليه لصغره، إذا كان عند مبلغه الحلم معروفا بإصلاح المال وإدارة البيع، وحب الكسب، وهو ممن لا تجوز شهادته عند القضاة، ولعله مشهور بشرب الخمر واتباع الفسق، مما يظن به سوء ظاهر أمره؛ ولكنه في إصلاح المال غير مخدوع، وهو له غير مضيع أترى أن يولى عليه لسوء حاله، أم يستوجب أخذ ماله لإصلاحه المال، وإن كان في دينه غير صالح، فقال: يدفع إليه ماله إذا عرف بحسنه وإصلاحه، ولا يحظر فيما يركب من الذنوب، ورب رجل صالح في حاله، مفسد لماله لضعف عقله، وسوء رأيه، فأرى أن يولى على مثله، ولا يستوجب أخذ ماله، لكفه عن الشرب، وما أشبه ذلك إذا كان غير مصلح لماله، ولا حابس على نفسه؛ قلت: أرأيت الذي يعرف الاكتساب والطلب لتثمير ماله، وتفقد عقاره، ويصلح جهده، غير أنه مسرف فيما يكتسي به، ذاهب السرف، يتكلف فوق قدره، ويجود بأكثر من طاقته في حال السخاء والبذل؛ إما في الإكثار من جمع الناس على طعامه، أو في أعطيته، لا يحمل مثلها ماله، وما أشبه هذا مما يعد به مسرفا؛ أترى أن يولى على مثله؟ قال: نعم، يولى على مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم أن المولى عليه يستوجب أخذ ماله، والانطلاق من الولاية بحسن النظر في المال، والإصلاح له بحسن القيام دون صلاح الدين؛ وكان يقول: رب فاسق أطلب للدرهم، وأكسب للرزق منا؛ وأخذ بقوله أصبغ ما لم يكن مارقا في الفساد.
وذهب مطرف، وابن الماجشون إلى أن المولى عليه لا يخرج من الولاية إذا شرب النبيذ المسكر، وإن كان حسن النظر في ماله. قالا: والرشد الذي ذكره الله في اليتيم مع بلوغ الحلم حتى يدفع إليه ماله، ويجوز أمره وقضاؤه فيه هو الرشد في حاله وماله، لا يكون هذا دون هذا؛ هذا هو قول مالك وجميع علمائنا بالمدينة؛ قالا: ولا يرد بشرب الخمر في الولاية بعد خروجه منها، إذا أحدث ذلك، والفرق بيْن ذلك بيِّن، وهو قول ابن كنانة وغيره من المدنيين، واختيار ابن حبيب، ومذهب ابن القاسم أظهر من جهة القياس؛ لأنه كما يحجر على البالغ الذي لم تلزمه ولاية في ماله إذا كان مفسدا له، سيئ النظر فيه، متلفا له؛ لقلة رأيه فيه، وإن كان حسن الدين في قولهم كلهم؛ فكذلك يلزم على قياس ذلك، أن يدفع إليه ماله، ويرفع عنه التحجير فيه إذا كان حسن النظر، وإن كان سيئ الدين، وقول ابن القاسم في هذه الرواية: إن الذي يعرف بالاكتساب والطلب لتثمير ماله، وتفقد عقاره إذا كان ذاهب السرف فيما يتلفه فيه من السخاء على إخوانه، وجمع الناس على طعامه وعطياته، لا يحمل مثلها ماله؛ يريد في غير وجوه البر إرادة الثناء والحمد، يجب أن يحجر عليه فيه نظرا له، صحيح؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ} [النساء: 5] الآية.

.مسألة المرأة تضار بزوجها فيقبح الذي بينهما ويفسد:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن المرأة تضار بزوجها، فيقبح الذي بينهما ويفسد، فتريد المرأة أن تضر بزوجها بإخراج مالها من يديه، ويصير إلى بعض قرابتها؛ فلما علمت أن للزوج أن يمنعها من مجاوزة ثلث مالها إن تصدقت أو أعتقت، أو أعطت قصدت إلى قدر الثلث، فتصدقت به إلى بعض قرابتها؛ وقد تبين لفساد ما بينها وبين زوجها؛ أنها إنما أرادت الضرر به، ولولا الذي وقع بينهما، لعلها لا تتصدق على الذي تصدقت عليه بثلث مالها بقيمة دينار من مالها أو أدنى، فقال: أرى ذلك جائزا، وإن كان أمرها على ما وصفت إذا لم تتجاوز بذلك الثلث.
قلت: أرأيت إن اتبعت بصدقة ثلث ما بقي بعد أشهر، فقال: إن تباعد ذلك جاز، وإن تقارب رد؛ قلت: كأن حالها عندك وحال التي تتصدق لغير الضرر سواء؛ قال: ما أراهما إلا سواء، قلت: فما تباعد ما بين الصدقتين عندك؛ أترى الشهر بعيد أم لا يكون متباعد إلا بقدر سنة أو نحوها؟ قال: ليس في ذلك حد، قال أصبغ: إلا ما طال حتى يرى أن ذلك تبرز مستقبل وتقرب؛ قال يحيى: وقد قال غيره ما يبين أنها تفعله على وجه الضرر، لا لبر، ولا لطلب أجر، إن ذلك مردود كله: قليله وكثيره؛ قال سحنون: وهو قول ابن القاسم في الثلث إذا كان على وجه الضرر أنه لا يجوز، قال سحنون: وأنا أراه جائزا.
قال محمد بن رشد: لا يجوز للمرأة ذات الزوج قضاء في أكثر من ثلث مالها هبة ولا صدقة، ولا بما أشبه ذلك من التفويت بغير عوض دون إذن زوجها في قول مالك وجميع أصحابه؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها بغير إذن زوجها؛» واختلف إن قصدت بتفويت ثلث مالها فأقل إلى الإضرار بزوجها فيما يتبين من حالها على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك لا يجوز، وهو قول غير ابن القاسم في رواية يحيى هذه عنه، وظاهر قول مالك في رواية أشهب عنه، من كتاب الأقضية. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى هذه عنه، وقول سحنون. والثالث: أنه إن كان أقل من الثلث جاز، وإن كان الثلث لم يجز، وهو قول ابن القاسم في رواية سحنون هذه عنه؛ وما في المدونة في ذلك محتمل للتأويل، واختلف في فعلها: هل هو محمول على الرد حتى يجاز، أو على الإجازة حتى يرد؛ فحكى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، أنه محمول على الرد حتى يجيزه الزوج؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها، إلا بإذن زوجها» وهو ظاهر قول مالك في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، من كتاب العتق، فعلى قياس هذا إذا تصدقت أو أعتقت أكثر من الثلث، فلم يعلم بذلك زوجها، أو علم، فلم يقض فيه برد، ولا إجازة حتى مات عنها أو طلقها، لم يلزمها ذلك، وقد روي ذلك عن بعض أصحاب مالك، وإن ادعت أنه الثلث، أو أقل من الثلث، كان عليها أن تبين ذلك؛ وحكي عن ابن القاسم أنه محمول على الإجازة حتى يرد الزوج، وهو ظاهر قوله في رسم الكراء والأقضية، وقول سحنون في سماع ابن القاسم، من كتاب العتق؛ فعلى قياس هذا؛ إذا علم الزوج بذلك، أو لم يعلم، فلم يرد حتى مات عنها أو طلقها؛ لزمها ذلك، وإن ادعى الزوج أنه أكثر من الثلث، كان عليه إقامة البينة؛ فإن رد الزوج ذلك، وبقي بيدها حتى زالت العصمة بموت أو فراق، لم يلزمها ذلك في الهبة والصدقة قولا واحدا؛ واختلف في العتق فقيل: إنه يلزمها، وهو قول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: إنه لا يلزمها، وهو قول أشهب، وقيل: إنها تؤمر بذلك، ولا تجبر عليه، وهو قول ابن القاسم؛ ولا خلاف في أنها تقضي في ذلك كله بما شاءت قبل أن تتأيم بعد الرد؛ وعلى هذا المعنى يأتي اختلافهم أيضا إذا لم يعلم الزوج بذلك حتى ماتت، هل له أن يرده بعد موتها أم لا؟ فقيل: إن له أن يرده، وهو قول سحنون في نوازله بعد هذا، وقول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: ليس له أن يرده بعد موتها، وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه؛ ومن أهل العلم من لا يجيز للمرأة قضاء في شيء من مالها قل أو كثر بغير إذن زوجها؛ لما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها».
ومنهم من يجيز لها القضاء في جميع مالها، بغير إذن زوجها استدلالا بظواهر آثار مروية في هذا المعنى، فما ذهب إليه مالك في مراعاة الثلث عدل بين القولين؛ وأما إذا فوتت مالها الشيء بعد الشيء، فإن قرب ما بين ذلك، نظر في الأول، فإن كان أكثر من الثلث رد الجميع، وإن كان الثلث جاز ورد ما بعده، وإن كان أقل من الثلث جاز ونظر فيما يليه؛ فإن كان مع الأول الثلث جاز ورد ما بعده؛ وإن كان أكثر من الثلث رد وما بعده؛ هذا على قياس ما قاله ابن القاسم في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، من كتاب العتق، والقرب في ذلك مثل الشهر والشهرين، على ما قاله ابن حبيب، وحكاه عن أصبغ؛ قال:
ولو قرب الأمر جدا مثل أن تتصدق بثلث مالها، ثم تتصدق بعد يوم أو يومين بثلث الباقي، أو أقل؛ أو أكثر رد الجميع كما لو كان في عقد واحد، ولا فرق في القياس بين اليوم واليومين، والشهر والشهرين في أنه يجب أن يمضي الأول ويرد الثاني، فقد قيل: إنه يمضي الثلث، ويرد ما زاد عليه، وإن كان في صفقة واحدة، فكيف إذا كان في صفقتين؛ وأما إن بعد ما بين ذلك، فينظر في الأول، فإن كان الثلث فأقل جاز، وينظر فيما بعده؛ فإن كان الثلث فأقل من الباقي بعد الأول جاز، وإن كان أكثر من الثلث لم يجز، وإن كان الأول أكثر من الثلث رد، ونظر فيها بعده؛ فإن كان أكثر من ثلث الجميع رد، وإن كان الثلث فأقل جاز، وهذا على قياس ما قاله ابن القاسم في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب العتق، وحد التباعد فيما بين الأمرين الستة الأشهر فأكثر، على ما حكى ابن حبيب، وقيل العام؛ لأنه حد في غير ما مسألة؛ وقد قيل: إنها إذا تصدقت بثلث مالها لا تنفذ لها عطية في باقيه بحال، قرب ذلك أو بعد؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تقضي في جميع مالها، قال ذلك عبد الوهاب، إلا أن تفيد مالا آخر، فيكون لها أن تقضي في ثلثه، والقياس أن لها أن تقضي في جميع ما أفادت بعد النكاح، إذ لم يتزوجها الزوج عليه، فلا يحجر عليه فيه، واختلف إذا قضت في مالها بتفويت أكثر من ثلثه، فقال ابن القاسم: يرد الزوج الجميع، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة يرد ما زاد على الثلث، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه.
فحمل ابن القاسم فعلها فيما زاد على الثلث على الضرر، فأبطل جميعه، وحمله عبد العزيز أبي سلمة على غير الضرر، فرد منه ما زاد على الثلث كالوصية، وهو الأظهر؛ إذ قد تفعل ذلك رجاء أن يجيزها زوجها، وقد تجهل أن لزوجها أن يحجر ذلك عليها، ولا اختلاف في أن فعلها في الثلث فما دونه، محمول على غير الضرر حتى يعلم أنها قصدت به الضرر، فيقع فيه من الاختلاف ما تقدم؛ وقد قيل في الوصية بالثلث: إنها ترد إذا قصد بها الضر؛ لقول الله عز وجل: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، وهو بين؛ وقال ابن الماجشون: يرد ما زاد على الثلث إلا في العتق، فإنه يرد جميعه؛ إذ لا يتبعض، واختلف في حلفها بصدقة جميع مالها؛ فقيل: يلزمها؛ لأنه مصروف إلى الثلث، فليس للزوج أن يرده، وهو قول سحنون في سماعه، من كتاب النذور، وقيل: لا يلزمها؛ لأن للزوج أن يرده، وهو قول أصبغ في السماع المذكور من النذور؛ وهذا اختلاف راجع إلى الاختلاف في تصدقها بالثلث قاصدة إلى الإضرار، والذي أقول به أنها إن كانت ممن تجهل أن صدقتها مصروفة إلى الثلث، كان للزوج أن يرده، وإن كانت ممن يعلم ذلك، لم يكن للزوج أن يرده، وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق على ابن له بغلام فلم يحزه حتى أوصى الأب للعبد بالعتاقة:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على ابن له بغلام، فلم يحزه الابن حتى أوصى الأب للعبد بالعتاقة، أيكون ذلك نقضا للصدقة؟ فقال: إن كان الابن صغيرا في حجر، فالوصية ماضية، إن مات الأب عتق العبد بالوصية إن حمله الثلث، وكان للابن قيمة العبد في رأس مال أبيه؛ لأنه كان حائزا عليه، فليست الوصية التي أحدث بعد الصدقة تبطل الصدقة، ولكن يكون العبد الذي تصدق به عليه أبوه كغيره من مال الولد، فالوالد إذا أوصى بعتاقة عبد ابنه الصغير أو بتل عتقه، جاز ذلك على الابن إذا كان للأب مال وأعطى الولد قيمة عبده، فسواء كان له بالصدقة، أو من غيرها، قال: وإن مات الأب ولا مال له، لم تجز الوصية للعبد، وكان الابن أولى به لقبضه بالصدقة؛ قال: وإن كان الابن المتصدق عليه كبيرا يلزمه الحوز لنفسه، فإنه إن لم يقبض العبد حتى يموت الأب، فلا صدقة له، والوصية للعبد جائزة، وإن قام فأخذ صدقته في حياة أبيه وصحته كان أحق بحوزها، وبطلت الوصية؛ لأن الأب لا يحوز على ابنه الكبير، ولا يجوز له أن يوصي بعتاقة عبيد ولده الأكابر، فالولد الكبير أحق بالعبد من الوصية إذا قام بالحيازة في صحة أبيه.
قال محمد بن رشد: وصيته بعتق عبد ابنه الصغير، كعتقه سواء أن حمله الثلث جاز، وكان له قيمته في مال أبيه، وكذلك ما حمل الثلث منه إن لم يحمل جميعه، وقد مضى في رسم استأذن من سماع عيسى حكم صنيع الأب في مال ابنه الصغير من عتق أو هبة أو صدقة أو تزويج مستوفى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يرث هو وأخوه أرضا فيتصدق منها على رجل بناحية من الأرض بنصها:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يرث هو وأخوه أرضا، فيتصدق منها على رجل بناحية من الأرض بنصها، وذلك قبل أن يقاسم أشراكه، ماذا ترى للمتصدق عليه؟ قال ابن القاسم: أرى أن تقسم الأرض كلها بين الورثة، فإن صارت الأرض التي تصدق بها أحدهم للمتصدق بها في سهمه، أخذها الذي تصدق بها عليه، وإن صارت لبعض أشراكه كانت للذي تصير له في سهمه، وبطلت الصدقة، ولم يكن على المتصدق أن يعوض المتصدق عليه منها شيئا من الأرض التي صارت له في سهمه؛ قال: وإن صار للمتصدق بها بعضها في سهمه، أعطى المتصدق عليه منها الذي صار للمتصدق في سهمه من تلك الأرض بعينها؛ قلت له: أرأيت تلك الأرض التي تصدق بها بعينها تحمل القسمة لسعتها دون أرض القرية؛ أيجوز للمتصدق عليه أن يقول: أنا أقاسمكم هذه الأرض دون أرض القرية، فآخذ منها نصيب صاحبي المتصدق علي، وكره ذلك الورثة؛ قال: لا ينظر إلى قول واحد منهم، ولكن ينظر إلى الأرض، فإن كانت في كرمها أو رداءتها لا تضاف إلى غيرها، على ذلك كان القسام يقسمونها، لو لم يتصدق بها على وجه العدل بين الورثة قسمت وحدها، فأعطى المتصدق عليه حصة المتصدق منها، ولا حق له فيما سواها مما يقاسمه الوراث أشراكه من بقية أرض القرية، وإن كانت تلك الأرض بعينها تشبه غيرها من جميع أرض القرية في القرب والكرم حتى يكون رأي القسام إذا عدلوا بين الورثة في القسم أن يجمعوا مثلها إلى بقية أرض القرية، جمعت في القسم، فإن صارت لغير المتصدق بها لم يكن للمتصدق بها عليه منها، ولا من غيرها شيء وإن صارت أو بعضها للمتصدق في سهمه، أخذها المتصدق عليه، أو أخذ ما صار منها للمتصدق بها.
قال محمد بن رشد: جواب ابن القاسم في هذه المسألة صحيح على القول بأن القسمة تمييز حق؛ لأنها كأنها حققت أن الذي صار منها للمتصدق من الأرض، هو الذي كان له يوم تصدق منها، فلذلك قال: إن صارت الناحية المتصدق بها للمتصدق، أخذها المتصدق عليه، وإن صارت لغيره لم يكن له شيء، وإن صار له بعضها، لم يكن له إلا ما صار له منها، ويأتي فيها على قياس القول بأنها بيع من البيوع، أنه ليس للمتصدق عليه من الناحية المتصدق بها إلا سهم المتصدق، بأن صارت القسمة لغيره، كان له من حظ المتصدق قدر ذلك، وهو قول ابن الماجشون؛ وقال مطرف: إن وقع في سهم المتصدق ما تصدق به فهو للمتصدق عليه، وإن وقع في سهم غيره كان للمتصدق عليه قدر نصيب المتصدق، وهو استحسان على غير قياس.

.مسألة يقول ثمر حائطي العام صدقة على فلان والنخل يومئذ لا ثمر لها:

ومن كتاب الصلاة:
قال يحيى: وسألت عن رجل يقول: ثمر حائطي العام صدقة على فلان، والنخل يومئذ لا ثمر لها، فيريد المتصدق أن يبيع الأصل، قال: ليس ذلك له، إلا أن يبيع الأصل في دين رهنه إذا ألجئ إلى ذلك من فلس، قيل له: فإن مات المتصدق ولم يثمر النخل؟ فقال: ليس للمتصدق عليه شيء. وسئل عنها سحنون فقال: إن أراد بيعها قبل إبار النخل، فبيعه غير جائز، وإن كان بيعه بعد إبار النخل، فالبيع جائز.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه المسألة أن المتصدق بالثمرة إن مات قبل أن يثمر النخل، لم يكن للمتصدق عليه شيء، وإن كان قد قبض النخل، خلاف ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة من أن قبض النخل قبض لما يأتي من الثمرة الموهوبة، وكان أبو عمر بن القطان يرد ما في المدونة بالتأويل إلى هذه الرواية، وكان غيره يخالفه في ذلك على ما قد ذكرناه في كتاب العرايا من المقدمات، وسائر المسألة قد مضى الكلام عليه مستوفى في رسم أوله مسائل بيوع ثم كراء، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.

.مسألة رجل تصدق على بنين له ثلاثة بأرض أو دار وأحد الولد غائب:

ومن كتاب المكاتب:
وسألته عن رجل تصدق على بنين له ثلاثة بأرض أو دار وأحد الولد غائب، فأراد الحاضران أن يحوزا حظيهما، فقاسمهما الأب فأخذا ثلثي الأرض أو الدار؛ وحبس الوالد الثلث فمات قبل قدوم الابن الغائب، فلما قدم أراد أن يدخل على أخويه فيما حازا مما كان أبوهم قد تصدق به عليهم؛ فقال: لا حق له إذا لم يحز لنفسه، ولم يحز له حائز، ولأخويه ما حازا دونه؛ قلت: فلو لم يقاسمهما الأب فحازا ثلثي ذلك أو أقل أو أكثر حيازة مبهمة، ليست حيازة مقاسمة.
قال أصبغ: ما حازا بينهم؛ لأن الصدقة وقعت بينهم على الإشاعة، وقبضهما حيازة للغائب لمغيبه، فقد حازا من الصدقة شيئا هو بينهما وبين الغائب، فذلك جائز، وهو بينهم سواء، كما كانت الصدقة بينهم، ويشبه أن يقولوا مثل هذا أيضا، وإن كانا حازاه على مقاسمة من الأب فيها؛ لأن القسمة التي قسمها الأب لا تجوز عليه؛ إذ ليس ممن يجب أن ينظر له.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية قلت: فلو لم يقاسمهما الأب إلى آخر المسألة، ساقط من أكثر الكتب، وهي زيادة جيدة تتم بها المسألة؛ ولا إشكال فيما حاز الحاضران على غير قسم أنه بينهما وبين الغائب، وإنما الكلام فيما حازاه على مقاسمة من الأب لهما على الغائب؛ فالقياس أن يدخل الغائب عليهما فيما حازاه على الأب؛ لأن قسمته لا تجوز عليه إذا كانت بعد الصدقة، ولم تكن في أصلها؛ ووجه إعمال القسمة عليه، وإن لم تكن في أصل الصدقة، وكانت بعدها مراعاة قول من يقول: إن الصدقة والهبة لا يجب الحكم بها على المتصدق والواهب ما لم تقبض منه، فكانت القسمة كأنها في أصل الصدقة؛ ولو قدم الغائب والمتصدق حي، لما جازت عليه القسمة إذا لم تكن في أصل الصدقة، وعلى قياس إجازة القسمة على الغائب استحسانا مراعاة لهذا الخلاف، يأتي ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن المدنيين والمصريين، وقال: إنه مما اجتمعوا عليه ورأوه واحدا في الهبة والصدقة من أن الرجل إذا حبس حبسا على بنيه الصغار والكبار، أو تصدق عليهم بصدقة، فقاسمه في أصل التحبيس أو بعده، فسمى للصغار من ذلك مساكن معروفة محدودة، وللكبار مثل ذلك، فلم يحز الكبار ما سمى لهم من ذلك، وحاز هو للصغار ما سمى لهم؛ جاز ذلك للصغار، وبطل على الكبار؛ لأنه إنما صار كأنه إنما حبس على كل فريق منهم شيئا بعينه مفروزا محدودا، وقال فضل: رأيت ابن حبيب قد ذكر في سماعه من أصبغ، عن ابن القاسم بخط يده: إذا قسم ذلك في أصل الحبس، ولم يذكر فيه هذه كما حكى هاهنا.
قال محمد بن رشد: وهذا هو القياس، إلا أن يكون إذ قسم الحبس أو الصدقة بين الصغار والكبار بعد أن حبس أو تصدق عليهم جميعا، قسمه مع الكبار برضاهم، فيجوز ذلك ويكون للصغار حظهم بحيازة الأب إياه لهم، ويبطل حظ الكبار، إلا أن يحوزه، ولا يكون في ذلك اختلاف ولا اعتراض؛ لأن قسمة الأب على الصغار جائزة، وبالله التوفيق.

.مسألة يكون بينه وبين الرجل عبد فيقول أحدهما نصيبي من خدمتك عليك صدقة:

قال: وسألته عن الرجل يكون بينه وبين الرجل عبد، فيقول أحدهما نصيبي من خدمتك عليك صدقة؛ فقال: يقول عليه نصيب صاحبه، ويكون ذلك بمنزلة من أعتق شركا له في عبد. قلت: فإن قال الرجل لعبده خدمتك عليك صدقة ما عشت أنت، أو ما عشت أنا؛ قال: أما حياة العبد فبين أنه حر ساعتئذ، وأما حياة السيد، فليس له من خدمته إلا حياة السيد، ولا يكون حرا، وكذلك قوله بخراجك وبعملك.
قال محمد بن رشد: فرق مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة في أول رسم منه بين الخراج والعمل، فقال: إنه إن قال: تصدقت عليك بخراجك، كان له أن يستخدمه ولا يضر به؛ يريد في مثل ما استخدم فيه أم الولد، وإن قال: قد تصدقت عليك بعملك، كان حرا مكانه، وقال سحنون:
مفاد الخراج والعمل والخدمة عندي واحد، فإن قال الرجل لعبده: قد تصدقت عليك بخدمتك، أو بخراجك، أو بعملك، فإن كان أراد ما عاش العبد فهو حر ساعتئذ؛ وإن كان ما عاش السيد فليس له منه إلا حياة السيد، فقول سحنون في مساواته بين الخراج والخدمة والعمل، مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية، خلاف قول مالك: ولا فرق عند جميعهم بين الخدمة والعمل، ولم يتكلم ابن القاسم إذا قال: قد تصدقت عليك بخدمتك، أو بعملك، ولم يقل: ما عشت أنت، أو ما عشت أنا، والذي يوجبه النظر أن يصدق في ذلك دون يمين، وهو الذي يدل عليه قول سحنون؛ فإن قال: لم تكن لي نية، حمل على حياة العبد، وكان حرا مكانه، وبالله التوفيق.

.مسألة يتصدق في صحته على الرجل بمن إذا ملكه عتق عليه:

قال: وسألته عن الرجل يتصدق في صحته على الرجل بمن إذا ملكه عتق عليه، فلا يقبل صدقته ما يكون حال العبد؟ فقال: يكون حرا على سيده الذي تصدق به، ويكون ولاؤه له، ولا يجبر المتصدق عليه على أخذه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا لم يقبل أنه يكون حرا على سيده الذي تصدق به، ويكون الولاء له، خلاف نص قوله في المدونة في الذي يوصى له بمن يعتق عليه والثلث يحمله؛ أنه يعتق عليه قبل أو لم يقبل، ويكون الولاء له؛ قال أبو إسحاق التونسي: وكان القياس إذا لم يقبل أن يرجع رقيقا لورثة الموصي في الوصية، أو للمتصدق به في الصدقة، ووجه ما ذهب إليه؛ أن الموصي والمتصدق إنما ملكه كل واحد منهما إياه إن شاء، فكان كما لو قال لعبده: عتقك بيدك إن شئت، فقال: لا أقبل؛ أنه رقيق، ووجه ما في المدونة أن المتصدق والموصي لما علم كل واحد منهما أنه يعتق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له قبل أو لم يقبل، ووجه هذه الرواية أنه لما علم أنه يعتق عليه فأوصى له به، أو وهبه إياه، أو تصدق به عليه، فقد قصد إلى عتقه، فكأنه قال: إن قبله، وإلا فهو حر؛ والقولان في الولاء إذا لم يقبل في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب العتق، وأما إذا أوصى له بشقص ممن يعتق عليه، أو وهبه إياه، أو أوصى له به كله، فلم يحمله الثلث، فمذهب ابن القاسم أنه إن قبل عتق عليه ذلك الشقص، وقوم عليه الباقي إن كان له مال، وإن لم يقبل عتق عليه ذلك الشقص، وكان ولاؤه له، وقال علي بن زياد، عن مالك: إن لما يقبل سقطت الوصية، وكذلك على روايته يرجع الشقص الموهوب إذا لم يقبله الموهوب له إلى الواهب ملكا، ووجه ما ذهب إليه مالك في رواية علي بن زياد: أنه حمل عليه إذا كان ثم تقويم يضر به، أنه خيره بين أن يقبل، فيعتق عليه ما قبل، وبقوم عليه باقيه؛ وبين ألا يقبل فيرجع إليه رقيقا.
وإذا لم يكن ثم تقويم يضر به، حمل عليه أنه أراد عتق عنه بكل حال؛ وعلى هذه الرواية أنه أراد عتقه عن نفسه، إن لم يقبله، ورواية عدي بن زياد في الشقص يوهب له ممن يعتق عليه، أو يوصى له به، أنه إن لم يقبله رجع رقيقا، أظهر من مذهب ابن القاسم؛ لأنه إذا كان يعتق عليه الشقص على كل حال قبله أو لم يقبله بعد أن يقوم عليه إذا قبله، إذ لم يؤثر قبوله له شيئا، وبالله التوفيق.

.مسألة تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير ليؤديها في دينه:

قلت: فإن تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير ليؤديها في دينه، فلم يقبل، وقال الغرماء: نحن نقبل ذلك عليه، ولا ينبغي له أن يضر بنا في رد ما تصدق به عليه؛ فقال: لا يجبر على أخذ الصدقة؛ لأنه يقول: لا ألزم نفسي مذمة، ولا أوجب لأحد علي منة، وسيرزقني الله، فأؤدي إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب المديان والتفليس، وهي مسألة صحيحة بينة، قد أغنى ابن القاسم عن القول فيها بنصه على العلة فيها، فإن قال الغرماء: ليس من حق المتصدق عليك أن يؤدي إلينا ديوننا عنك، فيكون عليه قد امتن بذلك عليك، ولا يكون لك في ذلك حجة، فما الفرق بين ذلك وبين أن يعطيك ما تؤدي منه دينك؛ قيل لهم: الفرق بين ذلك ظاهر بين؛ لأنه إذا أدى عنه دينه إلى الغرماء بغير اختياره، كان من حقه إذا أيسر أن يؤدي ما عليه من الديون، ويجبر أربابها على قبضها، لتزول المنة عنه في أدائها عنه، ولو قبض المفلس الصدقة التي تصدق بها عليه على أنه بالخيار في قبولها وردها، فأراد ردها، وقال الغرماء: نحن نقبلها؛ لتخرج ذلك على قولين حسبما ذكرناه في كتاب التفليس.

.مسألة أخوين تنازعا في رقيق ادعى أحدهما أن له فيها شركا:

ومن كتاب الأقضية:
قال يحيى: وسألت ابن وهب عن أخوين تنازعا في رقيق ادعى أحدهما أن له فيها شركا، فقال المدعي لأخيه: أن منجاحا وابنتيه بيننا، وقال له أخوه: ليس له إلا ابنة واحدة، فقال أخوه: بل له ابنتان صغيرة وأخرى كبيرة، فقال له أخوه: إن كانت له ابنة سوى صغيرة، فهي عليك صدقة، فخاصمه الأخ فيما تصدق به عليه من الابنة الأخرى، ثم أقر الأخ بعدما نظر في أمرهما أن له ابنة أخرى، وقال: إنما وهبت، وليس لك صدقة، وظننت أنك تعني منجحا غلاما سواه؛ فقال الأخ: والله لا أقيلك من صدقتي ولا أدعها أبدا، إلا أن يقضى له بها، قال: فقال: سمعت مالكا يقول وهو الذي آخذ به: إن الصدقة إذا كان أصلها على وجه الصلة وطلب البر والمكافأة، وما أشبه ذلك من الوجوه المعروفة بين الناس في احتسابهم، أو حسن معاشرتهم، فإن صاحبها لا يرجع فيها؛ وإن خاصمه المتصدق بها عليه، قضي له عليه بها، قال: وأما كل صدقة تكون في يمين الحالف، أو لفظ منازع، أو جواب مكذب لصاحبه، مثل ما ذكرت لك في مسألتك؛ فهي باطل لا يقضى بها لمن تصدق بها عليه في بعض هذه الوجوه، وما أشبهها، إلا أن معطيها والمتصدق بها، يوعظ ويؤثم، فإن تطوع بإمضائها، كان ذلك الذي يستحب له، وإن شح، لم يحكم عليه فيها بشيء.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الهبات من المدونة، أن ما كان من الصدقة على وجه اليمين للمساكين، أو لرجل بعينه، فلا يجبره السلطان على أن يخرجها، وهو المشهور في المذهب، والمعنى في أنه لا يقضي بها بيّن، وذلك أن الحالف بالصدقة إنما يقصد إلى الامتناع مما حلف بالصدقة ألا يفعله، لا إلى إخراج الصدقة، والأعمال بالنيات؛ لكنه إذا فعل الذي حلف بالصدقة ألا يفعله، فقد اختار إخراج الصدقة على ترك الفعل، فلذلك قال: إنه يوعظ ويؤثم، وإنما لا يقضى عليه بالصدقة، إن كان آثما في الامتناع من إخراجها؛ لأنه لا أجر له في الحكم عليه بها وهو كاره، فيذهب ماله في غير منفعة تصير إليه، ولهذا المعنى لا يحكم على من نذر نذرا بالوفاء به، وفي المدنية لمحمد بن دينار فيمن شرط لامرأته أن تسري عليها، فالسرية صدقة عليها؛ أن الصدقة بالشرط تلزمه، وأنه إن أعتقها بعد أن اتخذها لم ينفذ عتقه، وكانت لها صدقة بالشرط، ولابن نافع في المدنية أيضا فيمن باع سلعة من رجل، وقال: إن خاصمته فهي صدقة عليه، فخاصمه فيها، أن الصدقة تلزمه، فإن كان يريد بقوله: إن الصدقة تلزمه، أنه يحكم بها عليه، فهو مثل قول ابن دينار، خلاف المشهور في المذهب، وأما ما كان من الصدقات المبتلات لله على غير يمين، فيحكم بها إن كانت لمعين باتفاق، وإن كانت للمساكين، أو في السبيل على اختلاف الرواية في ذلك في المدونة، وبالله التوفيق.